فصل: نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


الصَّحِيحُ الزَّائِدُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ

29- وَخُذْ زِيَادَةَ الصَّحِيحِ إِذْ تُنَصْ *** صِحَّتُهُ أَوْ مِنْ مُصَنَّفٍ يُخَصْ

30- بِجَمْعِهِ نَحْوِ ابْنِ حِبَّانَ الزَّكِي *** وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَكَالْمُسْتَدْرَكِ

31- عَلَى تَسَاهُلٍ وَقَالَ مَا انْفَرَدْ *** بِهِ فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُرَدْ

32- بِعِلَّةٍ وَالْحَقُّ أَنْ يُحْكَمْ بِمَا *** يَلِيقُ والْبُسْتِيُّ يُدَانِي الْحَاكِمَا

‏(‏وَخُذْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ لَكَ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يَسْتَوْعِبَاهُ ‏(‏زِيَادَةَ الصَّحِيحِ‏)‏ الْمُشْتَمِلَ عَلَى شَرْطَيْهِمَا وَغَيْرَهُ مِمَّا حُكِمَ لَهُ بِالصِّحَّةِ ‏(‏إِذْ‏)‏ أَيْ حَيْثُ ‏(‏تُنَصُّ صِحَّتُهُ‏)‏ مِنْ إِمَامٍ مُعْتَمَدٍ؛ كَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْخَطَّابِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الشَّهِيرَةِ فِيهَا، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، إِذَا صَحَّ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ‏.‏

كَمَا إِذَا وُجِدَ ذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ لَهُمْ تَصْنِيفٌ، خِلَافًا لِابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَا عَدَا الْكُتُبِ الشَّهِيرَةِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّصْحِيحِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ؛ لِاسْتِلْزَامِهِ الْحُكْمَ عَلَى السَّنَدِ الْمُوصِّلِ إِلَيْهِمْ بِالصِّحَّةِ‏.‏

وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنَ التَّقْيِيدِ بِالتَّصَانِيفِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ، كَأَنَّهُ لِلِاكْتِفَاءِ مِمَّا صَحَّحَهُ بُعْدٌ مِنَ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا انْحِصَارَ لَأَخْذِ الزِّيَادَةِ فِيمَا سَبَقَ، بَلْ تُؤْخَذُ إِمَّا مِنْهُ ‏(‏أَوْ مِنْ مُصَنَّفٍ‏)‏ بِفَتْحِ النُّونِ ‏(‏يُخَصُّ بِجَمْعِهِ‏)‏ أَيِ‏:‏ الصَّحِيحِ بِمُقْتَضَى مَا عِنْدَ مُصَنِّفِهِ‏.‏

‏(‏نَحْوُ‏)‏ صَحِيحِ أَبِي حَاتِمِ ‏(‏ابْنِ حِبَّانَ‏)‏ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ الْبُسْتِيِّ الشَّافِعِيِّ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ الْقَاضِي ‏(‏الزَّكِيِّ‏)‏ أَيِ‏:‏ الزَّاكِي، لِنُمُوِّهِ عِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالْخَطِيبِ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا فَهِمًا‏.‏

وَقَالَ الْحَاكِمُ‏:‏ ‏(‏كَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ فِي الْفِقْهِ، وَاللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ، وَالْوَعْظِ، وَمِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَاسْمُ مُصَنَّفِهِ “ التَّقَاسِيمُ وَالَأَنْوَاعُ “‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ نَحْوُ صَحِيحِ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرِ ‏(‏ابْنِ خُزَيْمَةَ‏)‏ بِمُعْجَمَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ وَبِالصَّرْفِ وَتَرْكِهِ هُنَا، وَاسْمُهُ‏:‏ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، شَيْخُ ابْنِ حِبَّانَ الْقَائِلُ فِيهِ‏:‏ مَا رَأَيْتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يُحْسِنُ صِنَاعَةَ السُّنَنِ، وَيَحْفَظُ أَلْفَاظَهَا الصِّحَاحَ وَزِيَادَتَهَا، حَتَّى كَأَنَّ السُّنَنَ كُلَّهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، غَيْرَهُ، وَأُخِّرَ عَنْهُ مَعَ تَقَدُّمِهِ؛ لِكَوْنِ صَحِيحِهِ عُدِمَ أَكْثَرُهُ، بِخِلَافِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، فَهُوَ مَوْجُودٌ بِتَمَامِهِ‏.‏

‏(‏وَكَالْمُسْتَدْرَكِ‏)‏ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا فَاتَهُمَا لِلْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيِّ النَّيْسَابُورِيِّ الْحَافِظِ الثِّقَةِ ‏(‏عَلَى تَسَاهُلٍ‏)‏ مِنْهُ فِيهِ، بِإِدْخَالِهِ فِيهِ عِدَّةَ مَوْضُوعَاتٍ، حَمَلَهُ عَلَى تَصْحِيحِهَا؛ إِمَّا التَّعَصُّبُ لِمَا رُمِيَ بِهِ مِنَ التَّشَيُّعِ، وَإِمَّا غَيْرُهُ، فَضْلًا عَنِ الضَّعِيفِ وَغَيْرِهِ‏.‏

بَلْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَنَّفَهُ فِي أَوَاخِرِ عُمُرِهِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ غَفْلَةٌ وَتَغَيُّرٌ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ تَحْرِيرُهُ وَتَنْقِيحُهُ، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ تَسَاهُلَهُ فِي قَدْرِ الْخُمُسِ الْأَوَّلِ مِنْهُ قَلِيلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِبَاقِيهِ، فَإِنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ‏:‏ “ إِلَى هُنَا انْتَهَى إِمْلَاءُ الْحَاكِمِ “‏.‏

وَقَوْلُ أَبِي سَعْدٍ الْمَالِينِيِّ‏:‏ “ إِنَّهُ طَالَعَهُ بِتَمَامِهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِهِمَا “- غَيْرُ مَرْضِيٍّ، نَعَمْ هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّسَاهُلِ فِي التَّصْحِيحِ، وَالْمُشَاهَدَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لِذَلِكَ ‏(‏قَالَ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا حَاصِلُهُ‏:‏ ‏(‏مَا انْفَرَدَ‏)‏ الْحَاكِمُ ‏(‏بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِتَصْحِيحِهِ؛ لِيُخَرِّجَ مَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَكَذَا مَا خَرَّجَهُ فَقَطْ غَيْرَ مُصَحِّحٍ لَهُ ‏(‏فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُرَدَّ‏)‏ لِلْقَدْحِ فِيهِ ‏(‏بـِ‏)‏ ظُهُورِ ‏(‏عِلَّةٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا مَا يَقْتَضِي الرَّدَّ‏.‏

هَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَالْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ فِي اخْتِصَارِهِمَا ابْنَ الصَّلَاحِ، وَالْمَوْجُودُ فِي نُسْخَةٍ‏:‏ “ إِنْ لَمْ يَكُنْ ‏[‏مِنْ قَبِيلِ الصَّحِيحِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ يُحْتَجُّ بِهِ “، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْحَصْرِ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَنَّهُ جَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ مَرْدُودًا‏]‏ مِنْ أَحَادِيثِهِ دَائِرًا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْحَسَنِ احْتِيَاطًا‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَتَحَكَّمْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، نَعَمْ جَرَّ سَدُّهُ بَابَ التَّصْحِيحِ إِلَى عَدَمِ تَمْيِيزِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحُجِّيَّةِ‏.‏

‏(‏وَالْحَقُّ‏)‏ كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ ‏(‏أَنْ‏)‏ يُتَتَبَّعَ الْكِتَابُ وَيُكْشَفَ عَنْ أَحَادِيثِهِ وَ‏(‏يُحْكَمْ‏)‏ بِسُكُونِ الْمِيمِ- لُغَةٌ- أَيْ‏:‏ يُقْضَى عَلَى كُلٍّ مِنْهَا ‏(‏بِمَا يَلِيقُ‏)‏ بِهِ مِنَ الصِّحَّةِ أَوِ الْحُسْنِ أَوِ الضَّعْفِ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِ الْحَاكِمِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ، بِالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ- مَزِيدُ تَسَاهُلِهِ ‏(‏وَ‏)‏ إِلَّا فَابْنُ حِبَّانَ ‏(‏الْبُسْتِيُّ‏)‏ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ نِسْبَةً لِمَدِينَةٍ مِنْ بِلَادٍ كَابُلَ بَيْنَ هَرَاةَ وَغَزْنَةَ، وُصِفَ بِأَنَّهُ ‏(‏يُدَانِي‏)‏ أَيْ‏:‏ يُقَارِبُ ‏(‏الْحَاكِمَا‏)‏ فِي التَّسَاهُلِ ‏[‏وَذَلِكَ يَقْتَضِي النَّظَرَ فِي أَحَادِيثِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَيِّدٍ بِالْمُعَدَّلِينَ، بَلْ رُبَّمَا يُخَرِّجُ لِلْمَجْهُولِينَ، لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُهُ إِدْرَاجُ الْحَسَنِ فِي الصَّحِيحِ، مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ نَازَعَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى التَّسَاهُلِ، إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ‏.‏

وَعِبَارَتُهُ‏:‏ إِنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ وُجْدَانِ الْحَسَنِ فِي كِتَابِهِ، فَهِيَ مُشَاحَّةٌ فِي الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمِّيهِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ خِفَّةِ شُرُوطِهِ، فَإِنَّهُ يُخَرِّجُ فِي الصَّحِيحِ مَا كَانَ رَاوِيهِ ثِقَةً غَيْرَ مُدَلِّسٍ، سَمِعَ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ الْآخِذُ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ إِرْسَالٌ وَلَا انْقِطَاعٌ‏.‏

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرَّاوِي جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْ شَيْخِهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةً، وَلَمْ يَأْتِ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ فَهُوَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ، وَفِي كِتَابِ الثِّقَاتِ لَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ‏.‏

وَلَأَجْلِ هَذَا رُبَّمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي جَعْلِهِمْ مِنَ الثِّقَاتِ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اصْطِلَاحَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُشَاحَحُ فِي ذَلِكَ‏]‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ الْحَازِمِيِّ‏:‏ ابْنُ حِبَّانَ أَمْكَنُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَاكِمِ، وَكَذَا قَالَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ‏:‏ قَدِ الْتَزَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ الصِّحَّةَ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْ ‏(‏الْمُسْتَدْرَكُ‏)‏ بِكَثِيرٍ، وَأَنْظَفُ أَسَانِيدَ وَمُتُونًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ لِلتَّمْيِيزِ‏.‏

وَكَمْ فِي كِتَابِ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثٍ مَحْكُومٍ مِنْهُ بِصِحَّتِهِ، وَهُوَ لَا يَرْتَقِي عَنْ رُتْبَةِ الْحَسَنِ، بَلْ وَفِيمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةٌ، مَعَ أَنَّهُ مِمَّنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ‏.‏

وَكَذَا مِنْ مَظَانِّ الصَّحِيحِ “ الْمُخْتَارَةِ “ مِمَّا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لِلضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ الْحَافِظِ، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ، لَكِنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى الْمَسَانِيدِ لَا الْأَبْوَابِ- لَمْ يُكْمِلْ تَصْنِيفَهَا‏.‏

وَتَقَعُ أَيْضًا فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ الَّذِي عَمِلَهُ مُسْتَخْرِجًا عَلَى مُسْلِمٍ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً زَائِدَةً عَلَى أَصْلِهِ، وَفِيهَا الصَّحِيحُ وَالْحَسَنُ، بَلْ وَالضَّعِيفُ أَيْضًا، فَيَنْبَغِي التَّحَرُّزُ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهَا أَيْضًا‏.‏

وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ مِنْ زِيَادَةٍ فِي أَحَادِيثِهِمَا، أَوْ تَتِمَّةٍ لِمَحْذُوفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ- فَهِيَ صَحِيحَةٌ، لَكِنْ مَعَ وُجُودِ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الصَّحِيحِ، فِيمَنْ بَيْنَ صَاحِبِ الْمُسْتَخْرَجِ وَالرَّاوِي، الَّذِي اجْتَمَعَا فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا‏.‏

‌‌‌‌‌‌الْمُسْتَخْرَجَاتُ

33- وَاسْتَخْرَجُوا عَلَى الصَّحِيحِ كَأَبِي *** عَوَانَةٍ وَنَحْوِهِ وَاجْتَنِبِ

34- عَزْوَكَ أَلْفَاظَ الْمُتُونِ لَهُمَا *** إِذْ خَالَفَتْ لَفْظًا وَمَعْنًى رُبَّمَا

35- وَمَا يَزِيدُ فَاحْكُمَنْ بِصِحَّتِهْ *** فَهْوَ مَعَ الْعُلُوِّ مِنْ فَائِدَتِهْ

36- وَالَأَصْلَ يَعْنِي الْبَيْهَقِيُّ وَمَنْ عَزَا *** وَلَيْتَ إِذْ زَادَ الْحُمَيْدِيُّ مَيَّزَا

وَالِاسْتِخْرَاجُ أَنْ يَعْمَدَ حَافِظٌ إِلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا، فَيُورِدَ أَحَادِيثَهُ حَدِيثًا حَدِيثًا بِأَسَانِيدَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُلْتَزِمٍ فِيهَا ثِقَةَ الرُّوَاةِ، وَإِنْ شَذَّ بَعْضُهُمْ حَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنْ يَلْتَقِ مَعَهُ فِي شَيْخِهِ، أَوْ فِي شَيْخِ شَيْخِهِ، وَهَكَذَا وَلَوْ فِي الصَّحَابِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ‏.‏

لَكِنْ لَا يَسُوغُ لِلْمُخَرِّجِ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَقْرُبُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ مُصَنِّفِ الْأَصْلِ فِيهَا إِلَى الطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ إِلَّا لِغَرَضٍ مِنْ عُلُوٍّ، أَوْ زِيَادَةِ حُكْمٍ مُهِمٍّ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَمُقْتَضَى الِاكْتِفَاءِ بِالِالْتِقَاءِ فِي الصَّحَابِيِّ أَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا فِي الشَّيْخِ مَثَلًا، وَلَمْ يَتَّحِدْ سَنَدُهُ عِنْدَهُمَا، ثُمَّ اجْتَمَعَ فِي الصَّحَابِيِّ إِدْخَالُهُ فِيهِ، وَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَرُبَّمَا عَزَّ عَلَى الْحَافِظِ وُجُودُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فَيَتْرُكُهُ أَصْلًا، أَوْ يُعَلِّقُهُ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، أَوْ يُورِدُهُ مِنْ جِهَةِ مُصَنِّفِ الْأَصْلِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ قَدْ ‏(‏اسْتَخْرَجُوا‏)‏ أَيْ‏:‏ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ الَّذِي انْجَرَّ الْكَلَامُ بِسَبَبِهِمَا إِلَى بَيَانِهِ، وَإِلَّا فَقَدَ اسْتَخْرَجُوا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ‏.‏

وَالَّذِينَ تَقَيَّدُوا بِالِاسْتِخْرَاجِ عَلَى الصَّحِيحِ جَمَاعَةٌ ‏(‏كَـ‏)‏ الْحَافِظِ ‏(‏أَبِي عَوَانَةٍ‏)‏ بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ الشَّافِعِيِّ، اسْتَخْرَجَ عَلَى مُسْلِمٍ ‏(‏وَنَحْوِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَبِي عِوَانَةَ، كَالْحُفَّاظِ الشَّافِعِيَّةِ‏:‏ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ فَقَطْ، وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْخُوَارِزِمِيِّ الْبَرْقَانِيِّ، بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَبِي نُعَيْمٍ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبِهَانِيِّ، كِلَاهُمَا عَلَيْهِمَا، وَهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي قَبْلَهُمَا شَيْخُ أَوَّلِهِمَا، وَهُوَ تِلْمِيذُ أَبِي عَوَانَةَ‏.‏

وَلِذَا خُصَّ بِالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَلَمْ يُلَاحَظْ كَوْنُ غَيْرِهِ اسْتَخْرَجَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ عَلَى الْبُخَارِيِّ الَّذِي هُوَ أَعْلَى، لَا سِيَّمَا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْبَابِ قَبْلَهُ لِمَا اخْتَصَّ بِهِ كِتَابُهُ مِنْ زِيَادَاتِ مُتُونٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ غَيْرِ مَا اشْتَرَكَ مَعَ غَيْرِهِ فِيهِ ‏[‏مِنْ زِيَادَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي أَحَادِيثِهِمَا وَنَحْوِهَا كَمَا بَيَّنْتُهُ قَرِيبًا‏]‏‏.‏

وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الزِّيَادَاتُ فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ لِعَدَمِ الْتِزَامِ مُصَنِّفِيهَا لَفْظَ الصَّحِيحَيْنِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لِهَذَا قِيلَ لِلنَّاقِلِ ‏(‏اجْتَنِبْ عَزْوَكَ أَلْفَاظَ الْمُتُونِ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَنْقُلُهَا مِنْهَا ‏(‏لَهُمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ لِلصَّحِيحَيْنِ، فَلَا تَقُلْ حَيْثُ تُورِدُهُ لِلْحُجَّةِ كَالتَّصْنِيفِ عَلَى الْأَبْوَابِ، حَسْبَمَا قَيَّدَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، إِلَّا بَعْدَ مُقَابَلَتِهِ أَوْ تَصْرِيحِ الْمُخَرِّجِ بِذَلِكَ‏.‏

‏(‏إِذْ‏)‏ قَدْ ‏(‏خَالَفَتِ‏)‏ الْمُسْتَخْرَجَاتُ ‏(‏لَفْظًا‏)‏ كَثِيرًا لِتَقَيُّدِ مُؤَلِّفِيهَا بِأَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِمْ ‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏مَعْنًى‏)‏ غَيْرَ مُنَافٍ ‏(‏رُبَّمَا‏)‏ خَالَفَتْ أَيْ‏:‏ قَلِيلًا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَانْظُرْ ‏(‏مَا تَزِيدُ‏)‏ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، أَوِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيِ‏:‏ الْمُسْتَخْرَجَاتُ أَوِ الْمُسْتَخْرَجُ‏.‏

‏(‏فَاحْكُمَنْ‏)‏ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ ‏(‏بِصِحَّتِهِ‏)‏، بِشَرْطِ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الصِّحَّةِ لِلرُّوَاةِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمُخَرِّجِ وَالرَّاوِي الَّذِي اجْتَمَعَا فِيهِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ مَخْرَجِ الصَّحِيحِ، فَالْمُسْتَخْرِجُونَ لَيْسَ جُلُّ قَصْدِهِمْ إِلَّا الْعُلُوَّ، يَجْتَهِدُونَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ وَالْمُخَرَّجُ عَلَيْهِ سَوَاءً، فَإِنْ فَاتَهُمْ فَأَعْلَى مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ- كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحُفَّاظِ- مِمَّا يُسَاعِدُهُ الْوِجْدَانُ‏.‏

وَقَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ عُلُوٌّ فَيُورِدُونَهُ نَازِلًا، وَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ إِنَّمَا هُوَ الْعُلُوُّ وَوَجَدُوهُ، فَإِنِ اتَّفَقَ فِيهِ شَرْطُ الصَّحِيحِ فَذَاكَ الْغَايَةُ، وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلُوا عَلَى قَصْدِهِمْ، فَرُبَّ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَعْضِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ مَثَلًا، فَأَوْرَدَهُ الْمُخَرِّجُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مِمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِزِيَادَةٍ، فَلَا يُحْكَمُ لَهَا حِينَئِذٍ بِالصِّحَّةِ‏.‏

وَقَدْ خَرَّجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَخْزُومِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ، وَقَدِ اتَّهَمُوهُ، وَإِذَا حَكَمْتَ بِالصِّحَّةِ بِشَرْطِهَا وَعَدَمِ مُنَافَاتِهَا، ‏(‏فَهُوَ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ لِلزِّيَادَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُكْمٍ لَا يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ الْأَصْلِ، أَوِ الْمُوَضِّحَةِ لِمَعْنَى لَفْظِهِ ‏(‏مَعَ‏)‏ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمُسْتَخْرَجَاتُ مِنَ ‏(‏الْعُلُوِّ‏)‏ الَّذِي هُوَ- كَمَا قُرِّرَ- قَصْدُ الْمُخَرِّجِ فِي أَحَادِيثَ الْكِتَابِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَوْ أَوْرَدَهُ مِنَ الْأَصْلِ‏.‏

مِثَالُهُ حَدِيثٌ فِي جَامِعِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَلَوْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مَثَلًا مِنْ طَرِيقِ أَحَدِ الشَّيْخَيْنِ، لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ، وَإِذَا رَوَاهُ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيِّ عَنْهُ، وَصَلَ بِاثْنَيْنِ ‏(‏مِنْ فَائِدَتِهِ‏)‏ أَيِ‏:‏ الِاسْتِخْرَاجِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي أَوْرَدْتُ مِنْهَا فِي النُّكَتِ نَحْوَ الْعِشْرِينَ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ غَيْرُ مُنْفَرِدِينَ بِصَنِيعِهِمْ، بَلْ أَكْثَرُ الْمُخَرِّجِينَ لِلْمَشْيَخَاتِ وَالْمَعَاجِمِ، وَكَذَا لِلَأَبْوَابِ، يُورِدُونَ الْحَدِيثَ بِأَسَانِيدِهِمْ، ثُمَّ يُصَرِّحُونَ بَعْدَ انْتِهَاءِ سِيَاقِهِ غَالِبًا بِعَزْوِهِ إِلَى الْبُخَارِيِّ أَوْ مُسْلِمٍ، أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا، مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَغَيْرِهَا، يُرِيدُونَ أَصْلَهُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لِذَلِكَ ‏(‏الْأَصْلَ‏)‏ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، لَا الْأَلْفَاظَ ‏(‏يَعْنِي‏)‏ الْحَافِظَ الْفَقِيهَ نَاصِرَ السُّنَّةِ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، ‏(‏الْبَيْهَقِي‏)‏ نِسْبَةً لِـ “ بَيْهَقَ “ قُرًى مُجْتَمِعَةٌ بِنَوَاحِي نَيْسَابُورَ، الشَّافِعِيَّ فِي تَصَانِيفِهِ، كَـ “ السُّنَنِ الْكُبْرَى “ وَ “ الْمَعْرِفَةِ “‏.‏

‏(‏وَمَنْ عَزَا‏)‏ لِلشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا؛ كَالْإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنِ بْنِ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيِّ الْفَقِيهِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ أَشَرْتُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي الْمَشْيَخَاتِ وَنَحْوِهَا أَسْهَلُ مِنْهُ فِي الْأَبْوَابِ، خُصُوصًا مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْنَى، وَكَوْنِ الْقَصْدِ بِالتَّبْوِيبِ مِنْهُ لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهَا‏.‏

وَلَكِنَّ جَلَالَةَ الْبَيْهَقِيِّ وَوُفُورَ إِمَامَتِهِ تَمْنَعُ ظَنَّ ارْتِكَابِهِ الْمَحْذُورَ مِنْهُ، ‏[‏وَلَوْ بِمُجَرَّدِ الصِّحَّةِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْمَعْزُوِّ إِلَيْهِ أَوْ فِيهِ‏]‏، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ‏.‏

فَالْإِنْكَارُ فِيهِ أَخَفُّ مِمَّنْ عَمِدَ إِلَى الصَّحِيحَيْنِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لَا عَلَى الْأَبْوَابِ، بَلْ عَلَى مَسَانِيدِ الصَّحَابَةِ بِحَذْفِ أَسَانِيدِهِمْ، وَيُدْرِجُ فِي أَثْنَاءِ أَحَادِيثِهِمَا أَلْفَاظًا مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِمَا، فَإِدْخَالُ غَيْرِ ذَلِكَ مُخِلٌّ‏.‏

‏(‏وَلَيْتَ إِذْ زَادَ‏)‏ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ ‏(‏الْحُمَيْدِيُّ‏)‏ بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْأَعْلَى حُمَيْدٍ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقُرْطُبِيِّ فَاعِلٌ، ذَلِكَ فِي جَمْعِهِ ‏(‏مَيَّزَا‏)‏ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَسُوقُ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ نَاقِلًا لَهُ مِنْ مُسْتَخْرَجِ الْبَرْقَانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ، فَأَخْرَجَ طَرَفًا مِنْهُ، وَلَا يُبَيِّنُ الْقَدْرَ الْمُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَيَلْتَبِسُ عَلَى الْوَاقِفِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا بِالنَّظَرِ فِي أَصْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْكَثِيرِ يُمَيِّزُ بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ‏:‏ اقْتَصَرَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى كَذَا، وَزَادَ فِيهِ الْبَرْقَانِيُّ مَثَلًا كَذَا‏.‏

وَلَأَجْلِ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ، انْتَقَدَ ابْنُ النَّاظِمِ وَشَيْخُنَا دَعْوَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ، خُصُوصًا وَقَدْ صَرَّحَ الْعَلَائِيُّ بِبَيَانِ الْحُمَيْدِيِّ لِلزِّيَادَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يَتَمَيَّزُ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَأْتِي فِي النَّقْلِ مِنْهُ وَمِنَ الْبَيْهَقِيِّ وَنَحْوِهِ مَا سَبَقَ فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ‏.‏

مَرَاتِبُ الصَّحِيحِ

37- وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا *** ثُمَّ الْبُخَارِيُّ فَمُسْلِمٌ فَمَا

38- شَرْطَهُمَا حَوَى فَشَرْطَ الْجُعْفِي *** فَمُسْلِمٍ فَشَرْطَ غَيْرُ يَكْفِي

39- وَعِنْدَهُ التَّصْحِيحُ لَيْسَ يُمْكِنُ *** فِي عَصْرِنَا وَقَالَ يَحْيَى مُمْكِنُ‏.‏

‏(‏مَرَاتِبُ الصَّحِيحِ‏)‏ مُطْلَقًا‏:‏

‏(‏وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَعْلَى الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلصِّحَّةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَبِالَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، إِذَا كَانَ الْمَتْنُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ كَمَا قَيَّدَهُ شَيْخُنَا‏.‏

وَقَالَ‏:‏ إِنَّ فِي عَدِّ الْمَتْنِ الَّذِي يُخَرِّجُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَحَابِيٍّ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ نَظَرًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ- أَعْنِي مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ- أَنْوَاعٌ‏:‏ فَأَعْلَاهُ مَا وُصِفَ بِكَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا، ثُمَّ مَشْهُورًا، ثُمَّ أَصَحُّ كَمَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ مَا وَافَقَهُمَا مُلْتَزِمُو الصِّحَّةِ، ثُمَّ أَحَدُهُمْ عَلَى تَخْرِيجِهِ، ثُمَّ أَصْحَابُ السُّنَنِ، ثُمَّ الْمَسَانِيدُ، ثُمَّ مَا انْفَرَدَا بِهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ كَوْنِهِ مِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ يَلِيهِ مَرْوِيُّ ‏(‏الْبُخَارِيِّ‏)‏ فَقَطْ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَضْيَقُ ‏(‏فَيَلِيهِ‏)‏ مَرْوِيُّ ‏(‏مُسْلِمٍ‏)‏ وَحْدَهُ لِمُزَاحَمَتِهِ لِلَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ الثَّالِثُ‏.‏

هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْمَفُوقِ مَا يَجْعَلُهُ فَائِقًا؛ كَأَنْ يَتَّفِقَ مَجِيءُ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ يَبْلُغُ بِهَا التَّوَاتُرَ أَوِ الشُّهْرَةَ الْقَوِيَّةَ، أَوْ يُوَافِقُهُ عَلَى تَخْرِيجِهِ مُشْتَرِطُو الصِّحَّةَ، فَهَذَا أَقْوَى مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِهِ‏.‏

وَكَذَا نَقُولُ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، بَلْ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمَفْضُولَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ؛ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ‏.‏

‏(‏فَـ‏)‏ يَلِي مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ ‏(‏مَا شَرْطَهُمَا‏)‏ مَفْعُولٌ ‏(‏حَوَى‏)‏ أَيْ‏:‏ جَمَعَ شَرْطَهُمَا، وَهُوَ الرَّابِعُ‏.‏

وَالدَّلِيلُ لِتَأَخُّرِهِ عَنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ التَّلَقِّي لِكُلٍّ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ بِالْقَبُولِ، عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ أَعْلَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ مِثْلَهُ، كَمَا تَرَدَّدَ غَيْرُهُ فِي تَأْخِيرِ الثَّالِثِ عَنِ الثَّانِي إِذَا كَانَ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى تَعْلِيلِهِ، وَيُسَاعِدُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَوْعِبَا مَشْرُوطَهُمَا، وَإِذَا كَانَ عَلَى مَا قَرَّرُوهُ، ‏(‏فَـ‏)‏ يَلِي الَّذِي عَلَى شَرْطِهِمَا مَا حَوَى ‏(‏شَرْطَ الْجُعْفِيِّ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ الْخَامِسُ‏.‏

‏(‏فَـ‏)‏ مَا حَوَى شَرْطَ ‏(‏مُسْلِمٍ‏)‏ وَهُوَ السَّادِسُ، ‏(‏فـَ‏)‏ مَا حَوَى ‏(‏شَرْطَ غَيْرٍ‏)‏ مِنَ الْأَئِمَّةِ سِوَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِتَخْرِيجِهِ فِي كِتَابِهِ الْمَوْضُوعِ لِلصِّحَّةِ، أَوْ ثُبُوتِهِ عَنْهُ وَهُوَ السَّابِعُ‏.‏ ‏[‏وَاسْتِعْمَالُ ‏(‏غَيْرُ‏)‏ بِلَا إِضَافَةٍ قَلِيلٌ‏]‏‏.‏

مَعَ أَنَّهُ لَوْ لُوحِظَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ شُرُوطِ مَنْ عَدَا الشَّيْخَيْنِ كَمَا فُعِلَ فِيهِمَا، لَزَادَتِ الْأَقْسَامُ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ ‏(‏يَكْفِي‏)‏ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّطْوِيلِ، وَعَدَمُ تَصْرِيحِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِالِاكْتِفَاءِ لَا يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخَوْضُ فِي التَّصْحِيحِ‏.‏

‏[‏الْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّصْحِيحِ وَالتَّحْسِينِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ‏]‏ ‏(‏وَعِنْدَهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ ابْنِ الصَّلَاحِ ‏(‏التَّصْحِيحُ‏)‏ وَكَذَا التَّحْسِينُ ‏(‏لَيْسَ يُمْكِنُ‏)‏، بَلْ جَنَحَ لِمَنْعِ الْحُكْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ الشَّامِلَةِ لَهُ ‏(‏فِي عَصْرِنَا‏)‏، وَاقْتَصَرَ فِيهِمَا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي تَصَانِيفِهِمُ الْمُعْتَمَدَةِ الَّتِي يُؤْمَنُ فِيهَا لِشُهْرَتِهَا مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ مَا مِنْ إِسْنَادٍ إِلَّا وَفِي رُوَاتِهِ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ عَرِيًّا عَنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ التَّنْبِيهَاتِ الَّتِي بِآخِرِ الْمَقْلُوبِ- الْقَوْلُ بِذَلِكَ فِي التَّضْعِيفِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَمْ يُوَافِقِ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حُكْمًا وَدَلِيلًا‏.‏

أَمَّا الْحُكْمُ فَقَدْ صَحَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ؛ كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ مُصَنِّفِ “ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ “ وَالضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ صَاحِبِ “ الْمُخْتَارَةِ “، وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ كَالزَّكِيِّ الْمُنْذِرِيِّ، وَالدِّمْيَاطِيِّ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ إِلَى شَيْخِنَا، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَهُ‏.‏

‏(‏وَقَالَ‏)‏ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا ‏(‏يَحْيَى‏)‏ النَّوَوِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-‏:‏ الْأَظْهَرُ عِنْدِي جَوَازُهُ وَهُوَ ‏(‏مُمْكِنٌ‏)‏ لِمَنْ تَمَكَّنَ وَقَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ لِتَيَسُّرِ طُرُقِهِ‏.‏

وَأَمَّا الدَّلِيلُ فَالْخَلَلُ الْوَاقِعُ فِي الْأَسَانِيدِ الْمُتَأَخِّرَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الرُّوَاةِ؛ لِعَدَمِ الضَّبْطِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَهُوَ فِي الضَّبْطِ مُنْجَبِرٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَنْهُمْ، كَمَا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِقَوْلِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ فِيمَا عَنْعَنَهُ الْمُدَلِّسُ‏:‏ هَذَا الْحَدِيثُ سَمِعَهُ هَذَا الْمُدَلِّسُ مِنْ شَيْخِهِ، وَحَكَمُوا لِذَلِكَ بِالِاتِّصَالِ‏.‏

وَفِي عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِضَبْطِهِمْ كُتُبَهُمْ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إِلَى حِينِ التَّأْدِيَةِ، وَوَرَاءَ هَذَا أَنَّ الْكِتَابَ الْمَشْهُورَ الْغَنِيَّ بِشُهْرَتِهِ عَنِ اعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ مِنَّا إِلَى مُصَنِّفِهِ، كَكِتَابِ النَّسَائِيِّ مَثَلًا لَا يَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَى النَّسَائِيِّ إِلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْإِسْنَادِ مِنَّا إِلَيْهِ، كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ، إِذَا رَوَى مُصَنِّفُهُ فِيهِ حَدِيثًا، وَلَمْ يُعَلِّلْهُ، وَجَمَعَ إِسْنَادُهُ شُرُوطَ الصِّحَّةِ، وَلَمْ يَطَّلِعِ الْمُحَدِّثُ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ، فَمَا الْمَانِعُ مِنَ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ‏؟‏

لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ، وَفِيهِمُ الضَّابِطُونَ الْمُتْقِنُونَ الْحُفَّاظُ بِكَثْرَةٍ، هَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي هَذَا الْفَنِّ، أَفَادَهُ شَيْخُنَا وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ النَّاظِمِ فِي دِيبَاجَةِ شَرْحِهِ لَأَبِي دَاوُدَ‏.‏

وَلَعَلَّ ابْنَ الصَّلَاحِ اخْتَارَ حَسْمَ الْمَادَّةِ؛ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَشَبِّهِينَ مِمَّنْ يُزَاحِمُ فِي الْوُثُوبِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي لَا يُهْتَدَى لِلْكَشْفِ مِنْهَا، وَالْوَظَائِفِ الَّتِي لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِمُبَاشَرَتِهَا‏.‏

وَلِلْحَدِيثِ رِجَالٌ يُعْرَفُونَ بِهِ وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابٌ‏.‏

وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ‏:‏ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَدِّثِ فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنْ يَكُونَ كَتَبَ، وَقَرَأَ، وَسَمِعَ، وَوَعَى، وَرَحَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وَحَصَّلَ أُصُولًا وَعَلَّقَ فُرُوعًا مِنْ كُتُبِ الْمَسَانِيدِ وَالْعِلَلِ وَالتَّوَارِيخِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنْ أَلْفِ تَصْنِيفٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُنْكَرُ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ طَيْلَسَانٌ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ، وَصَحِبَ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الزَّمَانِ، أَوْ مَنْ تَحَلَّى بِلُؤْلُؤٍ وَمَرْجَانٍ، أَوْ بِثِيَابٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ، فَحَصَّلَ تَدْرِيسَ حَدِيثٍ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَجَعَلَ نَفْسَهُ مَلْعَبَةً لِلصِّبْيَانِ، لَا يَفْهَمُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ جُزْءٍ وَلَا دِيوَانٍ، فَهَذَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُحَدِّثٍ بَلْ وَلَا إِنْسَانٍ، وَإِنَّهُ مَعَ الْجَهَالَةِ آكِلُ حَرَامٍ، فَإِنِ اسْتَحَلَّهُ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَفْثَةُ مَصْدُورٍ، وَرَمْيَةُ مَعْذُورٍ، وَبِهَا يَتَسَلَّى الْقَائِمُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِتَحْقِيقِ هَذَا الشَّأْنِ، مَعَ قِلَّةِ الْأَعْوَانِ، وَكَثْرَةِ الْحَسَدِ وَالْخِذْلَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ‏.‏

‏[‏مَعْنَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ‏]‏ إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيْخَيْنِ بِشَرْطِهِ فِي كِتَابِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِالسَّبْرِ لِكِتَابَيْهِمَا، وَلِذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ الْحَافِظُ فِي جُزْءٍ سَمِعْنَاهُ أَفْرَدَهُ لِشُرُوطِ السِّتَّةِ‏:‏ ‏(‏شَرْطُهُمَا أَنْ يُخَرِّجَا الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقَ عَلَى ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَيَكُونَ إِسْنَادُهُ مُتَّصِلًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ‏.‏

فَإِنْ كَانَ لِلصَّحَابِيِّ رَاوِيَانِ فَصَاعِدًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ وَصَحَّ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ كَفَى، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى ثِقَةِ نَقَلَتِهِمَا قَدْ لَا يَخْدِشُ فِيهِ وُجُودُ حِكَايَةِ التَّضْعِيفِ فِي بَعْضِهِمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمَا؛ لِتَجْوِيزِ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَاهُ قَادِحًا، فَنَزَّلَا كَلَامَ الْجُمْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمَا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الثِّقَاتِ‏)‏ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ خِلَافٍ يُؤَثِّرُ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ مُخَالَفَةُ الثِّقَاتِ لِمَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ، أَوْ أُكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الثِّقَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّاذِّ‏.‏

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ فِي جُزْءِ شُرُوطِ الْخَمْسَةِ لَهُ مِمَّا سَمِعْنَاهُ أَيْضًا مَا حَاصِلُهُ‏:‏ إِنَّ شَرْطَ الصَّحِيحِ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُهُ مُتَّصِلًا، وَأَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ مُسْلِمًا صَادِقًا غَيْرَ مُدَلِّسٍ وَلَا مُخْتَلِطٍ، مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْعَدَالَةِ، ضَابِطًا مُتَحَفِّظًا، سَلِيمَ الذِّهْنِ، قَلِيلَ الْوَهْمِ، سَلِيمَ الِاعْتِقَادِ‏.‏

وَأَنَّ شَرْطَ الْبُخَارِيِّ أَنْ يُخَرِّجَ مَا اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ بِالثِّقَاتِ الْمُتْقِنِينَ الْمُلَازِمِينَ لِمَنْ أَخَذُوا عَنْهُ مُلَازَمَةً طَوِيلَةً سَفَرًا وَحَضَرًا، وَإِنَّهُ قَدْ يُخَرِّجُ أَحْيَانًا مَا يَعْتَمِدُهُ عَنْ أَعْيَانِ الطَّبَقَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فِي الْإِتْقَانِ وَالْمُلَازَمَةِ لِمَنْ رَوَوْا عَنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمُوهُ إِلَّا مُلَازَمَةً يَسِيرَةً‏.‏

وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَيُخَرِّجُ أَحَادِيثَ الطَّبَقَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيعَابِ، وَقَدْ يُخَرِّجُ حَدِيثَ مَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجَرْحِ، إِذَا كَانَ طَوِيلَ الْمُلَازَمَةِ لِمَنْ أَخَذَ عَنْهُ؛ كَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ؛ فَإِنَّهُ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ وَطُولِ صُحْبَتِهِ إِيَّاهُ، صَارَتْ صَحِيفَةُ ثَابِتٍ عَلَى ذِكْرِهِ وَحِفْظِهِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ، وَعَمَلُ مُسْلِمٍ فِي هَذِهِ كَعَمَلِ الْبُخَارِيِّ فِي الثَّانِيَةِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا اكْتِفَاءُ مُسْلِمٍ فِي السَّنَدِ الْمُعَنْعَنِ بِالْمُعَاصَرَةِ، وَالْبُخَارِيِّ بِاللِّقَاءِ وَلَوْ مَرَّةً لِمَزِيدِ تَحَرِّيهِمَا فِي صَحِيحَيْهِمَا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ اشْتَرَطَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ الثِّقَةَ وَالِاشْتِهَارَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ تَرَكَا أَشْيَاءَ تَرْكُهَا قَرِيبٌ، وَأَشْيَاءَ لَا وَجْهَ لِتَرْكِهَا‏.‏

فَمِمَّا تَرَكَهُ الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَةُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِثِقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ لَهُ رَبِيبٌ يُدْخِلُ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ‏.‏

وَتَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تُكُلِّمَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ أَبِيهِ، وَقَبِلَ صَحِيفَةً، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ لَمَّا وَجَدَهُ تَارَةً يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، وَتَارَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ، وَمَرَّةً عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِيهِ، فَلَوْ كَانَ سَمَاعُهُ صَحِيفَةً كَانَ يَرْوِي الْكُلَّ عَنْ أَبِيهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَرَدَّ كُلٌّ مِنَ الْحَازِمِيِّ وَابْنِ طَاهِرٍ عَلَى الْحَاكِمِ دَعْوَاهُ الَّتِي وَافَقَهُ عَلَيْهَا صَاحِبُهُ الْبَيْهَقِيُّ؛ مِنْ أَنَّ شَرْطَهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَانِ فَصَاعِدًا، ثُمَّ يَكُونُ لِلتَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ رَاوِيَانِ ثِقَتَانِ، ثُمَّ يَرْوِيَهُ عَنْهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الْمَشْهُورُ، وَلَهُ رُوَاةٌ ثِقَاتٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ يَكُونَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ أَوْ مُسْلِمٍ حَافِظًا مُتْقِنًا مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ فِي رِوَايَتِهِ وَلَهُ رُوَاةٌ، ثُمَّ يَتَدَاوَلُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالْقَبُولِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا؛ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ‏.‏

قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ وَهُوَ “ وَإِنْ كَانَ مُنْتَقَضًا فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَخْرَجَا لَهُمْ، فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ حَدِيثُ أَصْلٍ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا وَارٍ وَاحِدٌ فَقَطْ “‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ وَجَدْتُ فِي كَلَامِ الْحَاكِمِ التَّصْرِيحَ بِاسْتِثْنَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ، وَلَعَلَّهُ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى هَذَا، فَقَالَ‏:‏ الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ إِذَا لَمْ نَجِدْ لَهُ رَاوِيًا غَيْرَ تَابِعِيٍّ وَاحِدٍ مَعْرُوفٍ، احْتَجَجْنَا بِهِ، وَصَحَّحْنَا حَدِيثَهُ؛ إِذْ هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا‏.‏

فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ قَدِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ كُلٍّ مِنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ، وَلَيْسَ لَهُمَا رَاوٍ غَيْرَهُ، كَذَلِكَ احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِأَحَادِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَأَحَادِيثَ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُ الْحَاكِمِ قَدِ اسْتَقَامَ، وَزَالَ بِمَا تَمَّمْتُ بِهِ عَنْهُ الْمَلَامَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَ حَدِيثَ عَدِيٍّ إِنَّمَا هُوَ مُسْلِمٌ لَا الْبُخَارِيُّ، مَعَ كَوْنِ قَيْسٍ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْهُ، وَالَّذِي أَخْرَجَ حَدِيثَ زَاهِرٍ إِنَّمَا هُوَ الْبُخَارِيُّ لَا مُسْلِمٌ، نَعَمْ أَخْرَجَا مَعًا لِلْمُسَيَّبِ بْنِ حَزَنٍ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى ابْنِهِ سَعِيدٍ، وَلَكِنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي السِّيَرِ‏.‏

قَالَ ابْنُ يُونُسَ‏:‏ إِنَّهُ قَدِمَ مِصْرَ لِغَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَوْرَدَ الْحَاكِمُ أَيْضًا حَدِيثَ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ قَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ لَأَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَأَبِي مَالِكٍ الَأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا رَاوِيَ لِوَالِدِهِمَا غَيْرُ وَلَدِهِمَا، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏ وَسَيَأْتِي الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ‏.‏

ثُمَّ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏عَلَى شَرْطِهِمَا‏)‏‏؟‏ فَعِنْدَ النَّوَوِيِّ وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالذَّهَبِيِّ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ‏:‏ هُوَ أَنْ يَكُونَ رِجَالُ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِأَعْيَانِهِمْ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَتَصَرُّفُ الْحَاكِمِ يُقَوِّيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا لِرُوَاتِهِ قَالَ‏:‏ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ رُوَاتِهِ لَمْ يُخَرِّجَا لَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ حَسْبُ، وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ بِأَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَبُو عُثْمَانَ هَذَا لَيْسَ هُوَ النَّهْدِيَّ، وَلَوْ كَانَ النَّهْدِيَّ، لَحَكَمْتُ بِالْحَدِيثِ عَلَى شَرْطِهِمَا‏.‏

وَإِنْ خَالَفَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ، فَيُحْمَلُ عَلَى السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ؛ كَكَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ‏.‏

وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فِي خُطْبَةِ ‏(‏مُسْتَدْرَكِهِ‏)‏‏:‏ وَأَنَا أَسْتَعِينُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى إِخْرَاجِ أَحَادِيثَ رُوَاتُهَا ثِقَاتٌ، قَدِ احْتَجَّ بِمِثْلِهَا الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ الْمِثْلِيَّةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَعْيَانِ أَوِ الْأَوْصَافِ، لَا انْحِصَارَ لَهَا فِي الْأَوْصَافِ، لَكِنَّهَا فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ، وَفِي الْآخَرِ مَجَازٌ، فَاسْتَعْمَلَ الْمَجَازَ؛ حَيْثُ قَالَ عَقِبَ مَا يَكُونُ عَنْ نَفْسِ رُوَاتِهِمَا‏:‏ “ عَلَى شَرْطِهِمَا “، وَالْحَقِيقَةَ حَيْثُ قَالَ عَقِبَ مَا هُوَ عَنْ أَمْثَالِ رُوَاتِهِمَا‏:‏ ‏(‏صَحِيحٌ أَفَادَهُ شَيْخُنَا‏)‏‏.‏

وَعَلَيْهِ مَشَى فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ فَقَالَ‏:‏ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ- يَعْنِي بِشَرْطِهِمَا- رُوَاتُهُمَا مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الصَّحِيحِ، يَعْنِي مِنْ نَفْيِ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ، وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ غَيْرُهُ، قَالَ رَجُلٌ لِشُرَيْحٍ‏:‏ إِنِّي قُلْتَ لِهَذَا‏:‏ اشْتَرِ لِي مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ الَّذِي مَعَكَ، فَاشْتَرَى ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ‏.‏ فَقَالَ شُرَيْحٌ‏:‏ لَا شَيْءَ أَشْبَهَ بِالشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، ‏[‏وَأَلْزَمَهُ أَخْذَ الثَّوْبِ‏]‏‏.‏

وَكَذَا هَلِ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِمَا‏؟‏ الظَّاهِرُ- كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ- الْأَوَّلُ، وَتُعْرَفُ بِتَنْصِيصِهِمَا، وَقَلَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ، أَوْ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي مُلَاحَظَةُ حَالِ الرَّاوِي مَعَ شَيْخِهِ‏.‏

فَقَدْ يَكُونُ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ شُيُوخِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَعَدَمُ النَّظَرِ فِي هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوَهْمِ الْحَاكِمِ، وَلِذَا لَمَّا قَالَ عَقِبَ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ‏:‏ “ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ “ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ لَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحَسَنَ أَوْ سَمُرَةَ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ شَرْطِهِ، فَهُوَ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمٍ أَيْضًا‏.‏ انْتَهَى‏.‏

فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا خَرَّجَ لِرِجَالِ السَّنَدِ بِالصُّورَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنِ الْحَاكِمِ‏:‏ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مُسْلِمًا يَنْفِي سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ أَصْلًا، وَالْبُخَارِيُّ مِمَّنْ يُثْبِتُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ إِخْرَاجِهِ ‏[‏فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ سُئِلَ الْحَسَنُ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ‏؟‏ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ‏:‏ مِنْ سَمُرَةَ‏]‏‏.‏

حُكْمُ الصَّحِيحَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ

40- وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا *** كَذَا لَهُ وَقِيلَ ظَنًّا وَلَدَى

41- مُحَقِّقِيهِمْ قَدْ عَزَاهُ النَّوَوِي *** وَفِي الصَّحِيحِ بَعْضُ شَيْءٍ قَدْ رُوِي

42- مُضَعَّفًا وَلَهُمَا بِلَا سَنَدْ *** أَشْيَا فَإِنْ يَجْزِمْ فَصَحِّحْ أَوْ وَرَدْ

43- مُمَرَّضًا فَلَا وَلَكِنْ يُشْعِرُ *** بِصِحَّةِ الْأَصْلِ لَهُ كَـ “ يُذْكَرُ “

44- وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلُ الْإِسْنَادِ حُذِفْ *** مِعْ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَتَعْلِيقًا عُرِفْ

45- وَلَوْ إِلَى آخِرِهِ أَمَّا الَّذِي *** لِشَيْخِهِ عَزَا بِـ “ قَالَ “ فَكَذِي

46- عَنْعَنَةٍ كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ *** لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ الْمُخَالِفِ

‏(‏حُكْمُ الصَّحِيحِينِ‏)‏ الْمَاضِي ذِكْرُهُمَا ‏[‏فِيمَا أُسْنِدَ فِيهِمَا وَغَيْرِهِ‏]‏، ‏(‏وَالتَّعْلِيقُ‏)‏ أَيْ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ التَّعْلِيقِ الْوَاقِعُ فِيهِمَا وَفِي غَيْرِهِمَا‏]‏‏.‏

‏[‏هَلْ أَحَادِيثُ الصَّحِيحَيْنِ تُفِيدُ الْعِلْمَ‏]‏ لَمَّا أُشِيرَ إِلَى شَرْطِ صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، وَانْجَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، حَسُنَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيهِمَا لِسَائِلِهِ؛ أَيُرْتَقَى عَنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لِسُمُوِّهِمَا، وَجَلَالَتِهِمَا، وَشُفُوفِ تَحَرِّيهِمَا فِي الصَّحِيحِ أَمْ لَا‏؟‏‏.‏

فَقِيلَ لَهُ‏:‏ ‏(‏وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا‏)‏ أَيْ‏:‏ إِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ بِإِسْنَادَيْهِمَا الْمُتَّصِلِ دُونَ مَا سَيَأْتِي اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْمُنْتَقَدِ وَالتَّعَالِيقِ وَشِبْهِهِمَا- مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ؛ لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ فِي إِجْمَاعِهَا عَنِ الْخَطَأِ، كَمَا وَصَفَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ “ لِذَلِكَ بِالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ، وَكَذَا الْعَمَلُ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ نَسْخٌ أَوْ تَخْصِيصٌ أَوْ نَحْوُهُمَا‏.‏

وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ الْمُنْحَطِّ عَنْ دَرَجَةِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ ‏(‏كَذَا لَهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ لِابْنِ الصَّلَاحِ؛ حَيْثُ صَرَّحَ بِاخْتِيَارِهِ لَهُ وَالْجَزْمِ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَعَامَّةِ السَّلَفِ، بَلْ وَكَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ‏.‏

وَلَفْظُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ‏:‏ “ أَهْلُ الصَّنْعَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الصَّحِيحَانِ- مَقْطُوعٌ بِصِحَّةِ أُصُولِهَا وَمُتُونِهَا، وَلَا يَحْصُلُ الْخِلَافُ فِيهَا بِحَالٍ، وَإِنْ حَصَلَ فَذَاكَ اخْتِلَافٌ فِي طُرُقِهَا وَرُوَاتِهَا‏.‏

قَالَ‏:‏ فَمَنْ خَالَفَ حُكْمُهُ خَبَرًا مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ لِلْخَبَرِ، نَقَضْنَا حُكْمَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ‏.‏

‏(‏وَقِيلَ‏)‏‏:‏ هُوَ صَحِيحٌ ‏(‏ظَنًّا‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي أَصْلِهِ قَبْلَ التَّلَقِّي- لِكَوْنِهِ خَبَرَ آحَادٍ- إِلَّا الظَّنُّ، وَهُوَ لَا يَنْقَلِبُ بِتَلَقِّيهِمْ قَطْعِيًّا، وَتَصْحِيحُ الْأَئِمَّةِ لِلْخَبَرِ الْمُسْتَجْمِعِ لِلشُّرُوطِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلصِّحَّةِ إِنَّمَا هُوَ مُجْرًى عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي ثَانِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ تَلَقِّيهِمْ بِالْقَبُولِ لِمَا ظُنَّتْ صِحَّتُهُ ‏(‏وَ‏)‏ هَذَا الْقَوْلُ ‏(‏لَدَى‏)‏ أَيْ عِنْدَ ‏(‏مُحَقِّقِهِمْ‏)‏ وَكَذَا الْأَكْثَرُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا ‏(‏قَدْ عَزَا‏)‏ إِلَيْهِمُ الْإِمَامُ ‏(‏النَّوَوِيُّ‏)‏‏.‏

لَكِنْ قَدْ وَافَقَ اخْتِيَارَ ابْنِ الصَّلَاحِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى التَّلَقِّي، بَلْ هُوَ فِي كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ لِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّتِهِمَا، وَكَذَا هُوَ فِي كَلَامِ ابْنِ طَاهِرٍ وَغَيْرِهِ وَلَا شَكَّ- كَمَا قَالَ عَطَاءٌ- أَنَّ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَقْوَى مِنَ الْإِسْنَادِ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا‏:‏ “ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ مِنْ مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الطُّرُقِ، وَكَذَا مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ الَّتِي صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِإِفَادَتِهَا الْعِلْمَ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى هَذَا التَّلَقِّي الِاحْتِفَافُ بِالْقَرَائِنِ، وَهِيَ جَلَالَةُ قَدْرِ مُصَنِّفِيهِمَا، وَرُسُوخُ قَدَمِهِمَا فِي الْعِلْمِ، وَتَقَدُّمُهُمَا فِي الْمَعْرِفَةِ بِالصِّنَاعَةِ، وَجَوْدَةُ تَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبُلُوغُهُمَا أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْإِمَامَةِ فِي وَقْتِهِمَا “‏.‏

عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ ذَكَرَ فِي تَوْضِيحُ النُّخْبَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي التَّحْقِيقِ لَفْظِيٌّ، قَالَ‏:‏ لِأَنَّ مَنْ جَوَّزَ إِطْلَاقَ الْعِلْمِ، قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا، وَهُوَ الْحَاصِلُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَمَنْ أَبَى الْإِطْلَاقَ خَصَّ لَفْظَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَمَا عَدَاهُ عِنْدَهُ ظَنِّيٌّ‏.‏

لَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنَّ مَا احْتَفَّ بِالْقَرَائِنِ أَرْجَحُ مِمَّا خَلَا مِنْهَا، وَلَأَجْلِ كَوْنِهِ نَظَرِيًّا قِيلَ‏:‏ ‏(‏فِي الصَّحِيحِ‏)‏ لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ‏(‏بَعْضُ شَيْءٍ‏)‏ وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى مِائَتَيْ حَدِيثٍ ‏(‏قَدْ رُوِيَ‏)‏ حَالَ كَوْنِهِ ‏(‏مُضَعَّفًا‏)‏ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمَا، وَفَاتَ بِذَلِكَ فِيهِ تَلَقِّي كُلِّ الْأُمَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَثْنَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنَ الْقَطْعِ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ سِوَى أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّقْدِ مِنَ الْحُفَّاظِ؛ كَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ “‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَلَا يَمْنَعُ الِاسْتِثْنَاءُ اجْتِهَادَ جَمَاعَةٍ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ، وَدَفْعَ انْتِقَادِ ضَعْفِهِ، وَأَفْرَدَ النَّاظِمُ مُؤَلَّفًا لِذَلِكَ، عُدِمَتْ مُسَوَّدَتُهُ قَبْلَ تَبْيِيضِهَا، وَتَكَفَّلَ شَيْخُنَا فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْهُ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْهُ، فَكَانَ فِيهِمَا مَعَ تَكَلُّفٍ فِي بَعْضِهِ إِجْزَاءٌ فِي الْجُمْلَةِ‏.‏

وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْخَيْنِ مَعَ إِتْقَانِهِ وَحِفْظِهِ وَصِحَّةِ مَعْرِفَتِهِ، تَمَّ عَلَيْهِ الْوَهْمُ فِي حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ لَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَحَكَمَ عَلَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ خَاصَّةً بِالْوَضْعِ، فَقَدْ رَدَّهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَأَوْضَحْتُ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مُهِمَّاتٍ كَثِيرَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِي غَيْرِهِ فِي النُّكَتُ لَا يَسْتَغْنِي مَنْ يَرُومُ التَّبَحُّرَ فِي الْفَنِّ عَنْهَا‏.‏

وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْقَطْعِ أَيْضًا مَا وَقَعَ التَّجَاذُبُ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِ؛ حَيْثُ لَا تَرْجِيحَ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُفِيدَ الْمُتَنَاقِضَانِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لَأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ قَالَهُ شَيْخُنَا‏.‏

‏[‏تَعَالِيقُ الصَّحِيحَيْنِ‏]‏ ‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏لَهُمَا‏)‏ فِي صَحِيحَيْهِمَا ‏(‏بِلَا سَنَدٍ‏)‏ أَصْلًا، أَوْ كَامِلٍ؛ حَيْثُ أُضِيفَ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ إِمَّا الصَّحَابِيُّ أَوِ التَّابِعِيُّ فَمَنْ دُونَهُ، مَعَ قَطْعِ السَّنَدِ مِمَّا يَلِيهُمَا ‏(‏أَشْيَا‏)‏ بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ؛ كَأَنْ يُقَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، أَوِ الزُّهْرِيُّ وَالْجَمْعُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِمَا مَعًا؛ إِذْ لَيْسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ مِمَّا لَمْ يُوصِلْهُ فِيهِ سِوَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ‏.‏

‏(‏فَإِنْ يَجْزِمْ‏)‏ الْمُعَلِّقُ مِنْهُمَا بِنِسْبَتِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَضَافَهُ إِلَيْهِ ‏(‏فَصَحِّحْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ إِضَافَتَهُ لِمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْتَجِيزَ إِطْلَاقَهُ إِلَّا وَقَدْ صَحَّ عِنْدَهُ عَنْهُ، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ نَقَضَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ مُطَّرِدَةٌ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الْتِزَامِ كَوْنِهِ عَلَى شَرْطِهِ‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ لَمْ يَأْتِ الْمُعَلِّقُ بِالْجَزْمِ، بَلْ ‏(‏وَرَدَ مُمَرَّضًا فَلَا‏)‏ تَحْكُمْ لَهُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَهُ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الصِّيغَةِ؛ لِعَدَمِ إِفَادَتِهَا ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُنْتَقَدُ بِمَا وَقَعَ بِهَا مَعَ وَصْلِهِ لَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ‏.‏

عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا- وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الِاسْتِقْرَاءِ خُصُوصًا فِي هَذَا النَّوْعِ- أَفَادَ أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، إِلَّا حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالْمَعْنَى، أَوِ اخْتَصَرَهُ، وَجَزَمَ بِأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ- أَيْ‏:‏ فِيمَا عَدَاهُ- مُشْعِرٌ بِضَعْفِهِ عِنْدَهُ إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ عَنْهُ؛ لِعِلَّةٍ خَفِيَّةٍ فِيهِ، وَقَدْ لَا تَكُونُ قَادِحَةً، وَلِذَلِكَ فِيهِ مَا هُوَ حَسَنٌ، بَلْ وَصَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ التَّحْقِيقُ، وَإِنْ أَوْهَمَ صَنِيعُ ابْنِ كَثِيرٍ خِلَافَهُ‏.‏

‏(‏وَلَكِنْ‏)‏ حَيْثُ تَجَرَّدَتْ، فَإِيرَادُ صَاحِبِ الصَّحِيحِ لِلْمُعَلَّقِ الضَّعِيفِ كَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ صَحِيحِهِ ‏(‏يُشْعِرُ بِصِحَّةِ الْأَصْلِ لَهُ‏)‏ إِشْعَارًا يُؤْنَسُ بِهِ، وَيُرْكَنُ إِلَيْهِ‏.‏

وَأَلْفَاظُ التَّمْرِيضِ كَثِيرَةٌ ‏(‏كَيُذْكَرُ‏)‏ وَيُرْوَى وَرُوِيَ، وَيُقَالُ، وَقِيلَ، ‏[‏وَنَحْوُهَا، وَاسْتَغْنَى بِالْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِهَا عَنْ أَمْثِلَةِ الْجَزْمِ؛ كَذَكَرَ، وَزَادَ، وَرَوَى، وَقَالَ‏]‏ وَغَيْرِهَا لِوُضُوحِهِ، حَتَّى نَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ مُحَقِّقِي الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى اعْتِبَارِهِمَا كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِشَيْءٍ ضَعِيفٍ؛ لِأَنَّهَا صِيغَةٌ تَقْتَضِي صِحَّتَهُ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُطْلَقَ إِلَّا فِيمَا صَحَّ‏.‏

قَالَ‏:‏ “ وَقَدْ أَهْمَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ الْبَيْهَقِيِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَسَاهُلٌ قَبِيحٌ جِدًّا مِنْ فَاعِلِهِ؛ إِذْ يَقُولُ فِي الصَّحِيحِ‏:‏ يُذْكَرُ وَيُرْوَى، وَفِي الضَّعِيفِ قَالَ‏:‏ وَرَوَى، وَهَذَا قَلْبٌ لِلْمَعَانِي، وَحَيْدٌ عَنِ الصَّوَابِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدِ اعْتَنَى الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بِاعْتِبَارِ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ، وَإِعْطَائِهِمَا حُكْمَهُمَا فِي صَحِيحِهِ؛ فَيَقُولُ فِي التَّرْجَمَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضَ كَلَامِهِ بِتَمْرِيضٍ، وَبَعْضَهُ بِجَزْمٍ، وَاعِيًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِتَحَرِّيهِ وَوَرَعِهِ “‏.‏ انْتَهَى‏.‏ وَسَيَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي التَّنْبِيهَاتِ الَّتِي بِآخِرِ الْمَقْلُوبِ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَجْزُومَ بِهِ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ ابْتِدَاءً، وَمَا لَعَلَّهُ يَكُونُ كَذَلِكَ مِنَ الْمُمَرَّضِ إِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا بَعْدَ النَّظَرِ؛ لِوُجُودِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ فَافْتَرَقَا، وَإِذَا حَكَمْتَ لِلْمَجْزُومِ بِهِ بِالصِّحَّةِ، فَانْظُرْ فِيمَنْ أُبْرِزَ مِنْ رِجَالِهِ، تَجِدْ مَرَاتِبَهُ مُخْتَلِفَةً؛ فَتَارَةً تَلْتَحِقُ بِشَرْطِهِ، وَتَارَةً تَتَقَاعَدُ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا صَالِحًا لِلْحُجَّةِ؛ كَالْمُعَلَّقِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، رَفَعَهُ‏:‏ “ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ “، فَهُوَ حَسَنٌ مَشْهُورٌ عَنْ بَهْزٍ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، بَلْ وَيَكُونُ صَحِيحًا عِنْدَ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا، لَكِنْ لَا مِنْ جِهَةِ قَدْحٍ فِي رِجَالِهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ انْقِطَاعٍ يَسِيرٍ فِي إِسْنَادِهِ؛ كَالْمُعَلَّقِ عَنْ طَاوُسٍ‏:‏ قَالَ‏:‏ قَالَ مُعَاذٌ‏:‏ فَإِنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى طَاوُسٍ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مُعَاذٍ، وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهَا مِمَّنْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ‏.‏

وَالْأَسْبَابُ فِي تَعْلِيقِ مَا هُوَ مُلْتَحِقٌ بِشَرْطِهِ‏:‏ إِمَّا التَّكْرَارُ، أَوْ أَنَّهُ أَسْنَدَ مَعْنَاهُ فِي الْبَابِ، وَلَوْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، فَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ اخْتِصَارًا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ بِقَيْدِ الْعُلُوِّ، أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ جِهَةِ الثِّقَاتِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ سَمِعَهُ لَكِنْ فِي حَالَةِ الْمُذَاكَرَةِ، فَقَصَدَ بِذَلِكَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا يَأْخُذُهُ عَنْ مَشَائِخِهِ فِي حَالَةِ التَّحْدِيثِ أَوِ الْمُذَاكَرَةِ احْتِيَاطًا‏.‏

وَفِي الْمُتَقَاعِدِ عَنْ شَرْطِهِ‏:‏ إِمَّا كَوْنُهُ فِي مَعْرِضِ الْمُتَابَعَةِ، أَوِ الِاسْتِشْهَادِ الْمُتَسَامَحِ فِي إِيرَادِهِ مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنِ التَّعْلِيقِ، أَوْ أَنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَوْضِعٍ يُوهِمُ تَعْلِيلَ الرِّوَايَةِ الَّتِي عَلَى شَرْطِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي الطَّرَفَيْنِ‏.‏

وَبِمَا تَقَدَّمَ تَأَيَّدَ حَمْلُ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ‏:‏ “ مَا أَدْخَلْتُ فِي كِتَابِي إِلَّا مَا صَحَّ “ عَلَى مَقْصُودِهِ بِهِ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْنَدَةُ، دُونَ التَّعَالِيقِ وَالْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَرْجَمِ بِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَظَهَرَ افْتِرَاقُ مَا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ فِي الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهِ وَاسْتِثْنَائِهِ مِنْ إِفَادَةِ الْعِلْمِ ‏(‏وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلُ الْإِسْنَادِ‏)‏- بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ- مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الصَّحِيحِ مَثَلًا كَشَيْخِهِ فَمَنْ فَوْقَهُ ‏(‏حُذِفْ‏)‏ وَأُضِيفَ لِمَنْ بَعْدَ الْمَحْذُوفِ مِمَّا هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ كَثِيرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ ‏(‏مَعَ صِيغَةِ الْجَزْمِ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَعَ الْإِتْيَانِ بِهَا، بَلْ وَالتَّمْرِيضِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ؛ كَالنَّوَوِيِّ وَالْمِزِّيِّ فِي أَطْرَافِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي كِلَيْهِمَا‏.‏

‏(‏فَتَعْلِيقًا عُرِفْ‏)‏ أَيْ‏:‏ عُرِفَ بِالتَّعْلِيقِ بَيْنَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ؛ كَالْحُمَيْدِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، بَلْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ وُجِدَ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَعْلِيقِ الْجِدَارِ، وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، لِمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْجَمِيعُ مِنْ قَطْعِ الِاتِّصَالِ‏.‏

وَاسْتَبْعَدَ شَيْخُنَا أَخْذَهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْجِدَارِ، وَأَنَّهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ أَقْرَبُ، وَشَيْخُهُ الْبُلْقِينِيُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَسْمِيَتِهِ تَعْلِيقًا بَقَاءُ أَحَدٍ مِنْ رِجَالِ السَّنَدِ، بَلْ ‏(‏وَلَوْ‏)‏ حُذِفَ مِنْ أَوَّلِهِ ‏(‏إِلَى آخِرِهِ‏)‏ وَاقْتُصِرَ عَلَى الرَّسُولِ فِي الْمَرْفُوعِ، أَوْ عَلَى الصَّحَابِيِّ فِي الْمَوْقُوفِ- كَانَ تَعْلِيقًا، حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ بَعْضِهِمْ وَأَقَرَّهُ‏.‏

وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمِزِّيُّ فِي أَطْرَافِهِ، بَلْ وَلَا مَا اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى الصَّحَابِيِّ مَعَ كَوْنِهِ مَرْفُوعًا، وَكَانَ يَلْزَمُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَقَطَ الْبَعْضُ مِنْ أَثْنَائِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِأَلْقَابِ غَيْرِهِ؛ كَالْعَضْلِ وَالْقَطْعِ وَالْإِرْسَالِ‏.‏

وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يُحْذَفُ فِيهِ جَمِيعُ الْإِسْنَادِ، مَعَ عَدَمِ الْإِضَافَةِ لِقَائِلٍ؛ كَقَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ‏:‏ “ وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي الصَّلَاةِ جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً “ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي تَأْرِيخِهِ الصَّغِيرِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ عَنْ مَكْحُولٍ‏؟‏ الظَّاهِرُ نَعَمْ، وَحُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ مُلْتَزِمِي الصِّحَّةِ الِانْقِطَاعُ، وَلِذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ رَابِعَ التَّفْرِيعَاتِ التَّالِيَةِ لِلْمُنْقَطِعِ، وَمِنْ مُلْتَزِمِيهَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا‏.‏

‏[‏مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُ عَنْ شَيْخِهِ بَـ‏"‏ قَالَ ‏"‏‏]‏ ‏(‏أَمَّا‏)‏ الْمُصَنِّفُ ‏(‏الَّذِي لِشَيْخِهِ عَزَا‏)‏ مَا أَوْرَدَهُ ‏(‏بِـ ‏"‏قَال‏"‏‏)‏ وَزَادَ وَنَحْوِهِمَا ‏(‏فَكَـ‏)‏ إِسْنَادِ ‏(‏ذِي عَنْعَنَةٍ‏)‏ فَيُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ بِاتِّصَالِهِ شَيْئَانِ‏:‏ لُقِيُ الرَّاوِي لِمَنْ عَنْعَنَ عَنْهُ، وَسَلَامَتُهُ مِنَ التَّدْلِيسِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ‏.‏

وَأَمْثِلَةُ هَذِهِ الصِّيغَةِ كَثِيرَةٌ ‏(‏كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ‏)‏ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاءِ وَالْفَاءِ؛ وَهِيَ آلَاتُ الْمَلَاهِي، الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي عَامِرٍ، أَوْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا فِي الْإِعْلَامِ بِمَنْ يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ يَسْتَحِلُّهَا، وَيَسْتَحِلُّ الْحِرَ- بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَكَسْرِ الْأُولَى مَعَ التَّخْفِيفِ- يَعْنِي الزِّنَا، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِفَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَالْحَرِيرَ‏.‏

فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَهُ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ صَحِيحِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ‏:‏ ثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ “ وَسَاقَهُ سَنَدًا وَمَتْنًا، فَهِشَامٌ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَ عَنْهُ بِأَحَادِيثَ حَصَرَهَا صَاحِبُ ‏(‏الزَّهْرَةِ‏)‏ فِي أَرْبَعَةٍ، وَلَمْ يَصِفِ الْبُخَارِيَّ أَحَدٌ بِالتَّدْلِيسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ تَعْلِيقًا، خِلَافًا لِلْحُمَيْدِيِّ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ صَوَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَعَ حُكْمِهِ بِصِحَّتِهِ عَنْ قَائِلِهِ‏.‏

وَعَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ تَعْلِيقًا مَشَى الْمِزِّيُّ فِي أَطْرَافِهِ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ إِنَّ حُكْمَهُ الِانْقِطَاعُ، وَلَكِنْ قَدْ حَكَمَ عَبْدُ الْحَقِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ السُّنِّيُّ بِعَدَمِ اتِّصَالِهِ‏.‏

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ‏:‏ ‏(‏حُكْمُهُ الِانْقِطَاعُ‏)‏، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ‏:‏ ‏(‏أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا رِوَايَةٍ‏)‏، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ مَنْدَهْ؛ حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّ “ قَالَ “ تَدْلِيسٌ، فَالصَّوَابُ الِاتِّصَالُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ، فَلَا تُعَوِّلْ عَلَى خِلَافِهِ‏.‏

‏(‏وَلَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ‏)‏ الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ، الْمَنْسُوبِ هُنَا لِجَدِّ أَبِيهِ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقُرْطُبِيِّ الظَّاهِرِيِّ ‏(‏الْمُخَالِفِ‏)‏ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، نَشَأَتْ عَنْ غَلَطِهِ وَجُمُودِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، مَعَ سَعَةِ حِفْظِهِ وَسَيَلَانِ ذِهْنِهِ، كَمَا وَصَفَهُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ‏.‏

وَقَوْلُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ‏:‏ “ مَا رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ كِتَابِهِ “ الْمُحَلَّى “، وَ “ الْمُغْنِي “ لِابْنِ قُدَامَةَ “ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ‏(‏456هـ‏)‏ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً‏.‏

حَيْثُ حَكَمَ بِعَدَمِ اتِّصَالِهِ أَيْضًا، مَعَ تَصْرِيحِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ بِأَنَّ الْعَدْلَ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الْعُدُولِ، فَهُوَ عَلَى اللِّقَاءِ وَالسَّمَاعِ، سَوَاءٌ قَالَ‏:‏ أَنَا أَوْ ثَنَا أَوْ عَنْ فُلَانٍ، أَوْ قَالَ فُلَانٌ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى السَّمَاعِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ، بَلْ وَمَا اكْتَفَى حَتَّى صَرَّحَ لَأَجْلِ تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ فِي إِبَاحَةِ الْمَلَاهِي بِوَضْعِهِ مَعَ كُلِّ مَا فِي الْبَابِ، وَأَخْطَأَ فَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ‏.‏

وَقَدْ وَقَعَ لِي مِنْ حَدِيثِ عَشْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامٍ عَنْهُ، بَلْ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ كُلٌّ مِنْ هِشَامٍ وَصَدَقَةَ وَابْنِ جَابِرٍ‏.‏

ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ بِالِانْقِطَاعِ مَا يُوجَدُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ ذَلِكَ مَرْوِيًّا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ بِعَيْنِهِ بِالْوَاسِطَةِ مَرَّةً، وَتَصْرِيحِهِ بِعَدَمِ سَمَاعِهِ لَهُ مِنْهُ أُخْرَى، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَقَدْ وَقَعَ لَهُ إِيرَادُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ بِـ “ قَالَ “ فِي مَوْضِعٍ، وَبِالتَّصْرِيحِ فِي آخَرَ‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَكُلُّ مَا يَجِيءُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مُحْتَمِلٌ لِلسَّمَاعِ وَعَدَمِهِ، بَلْ وَسَمَاعُهُ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْمُذَاكَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا يَسُوغُ مَعَ الِاحْتِمَالِ الْجَزْمُ بِالِانْقِطَاعِ، بَلْ وَلَا الِاتِّصَالِ أَيْضًا؛ لِتَصْرِيحِ الْخَطِيبِ- كَمَا سَيَأْتِي- بِأَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ إِلَّا مِمَّنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُهَا إِلَّا فِيمَا سَمِعَهُ، نَعَمْ قَالَ مَا حَاصِلُهُ‏:‏ إِنَّ مَنْ سَلَكَ الِاحْتِيَاطَ فِي رِوَايَةِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ بِالْإِجَازَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ الْمَوْثُوقِ بِهَا- يَعْنِي كَالْمُنَاوَلَةِ- فَحَدِيثُهُ مُحْتَجٌّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ، بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ فِي تَصْحِيحِ الْإِجَازَةِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَوْصُولِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَقِبَ حَدِيثٍ قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ‏:‏ “ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ “‏:‏ إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُ فِي كِتَابِهِ حَدِيثًا بِالْإِجَازَةِ، يَعْنِي عَنْ شُيُوخِهِ غَيْرَهُ‏.‏

وَتَوَسَّطَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَغَارِبَةِ، فَوَسَمَ الْوَارِدَ بِـ “ قَالَ “ بِالتَّعْلِيقِ الْمُتَّصِلِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ الْمُنْفَصِلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ أَدْرَجَ مَعَهَا “ قَالَ لِي “ وَنَحْوَهَا مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ جَزْمًا، وَنُوزِعَ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُخْتَارُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ- كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا- أَنَّ حُكْمَ “ قَالَ “ فِي الشُّيُوخِ مِثْلُ غَيْرِهَا مِنَ التَّعَالِيقِ الْمَجْزُومَةِ‏.‏

نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ

47- وَأَخْذُ مَتْنٍ مِنْ كِتَابٍ لِعَمَلْ *** أَوِ احْتِجَاجٍ حَيْثُ سَاغَ قَدْ جَعَلْ

48- عَرْضًا لَهُ عَلَى أُصُولٍ يَشْتَرِطْ *** وَقَالَ يَحْيَى النَّوَوِيُّ أَصْلٍ فَقَطْ

49- قُلْتُ وَلِابْنِ خَيْرٍ امْتِنَاعُ *** نَقْلٍ سِوَى مَرْوِيِّهِ إِجْمَاعُ‏.‏

‏(‏نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ‏)‏ الَّتِي اشْتَهَرَتْ نِسْبَتُهَا لِمُصَنِّفِيهَا أَوْ صَحَّتْ، وَقَدَّمَ هَذَا عَلَى الْحَسَنِ الْمُشَارِكِ لِلصَّحِيحِ فِي الْحُجَّةِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلتَّعْلِيقِ فِي الْجُمْلَةِ‏.‏

‏(‏وَأَخْذُ مَتْنٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ حَدِيثٍ ‏(‏مِنْ كِتَابٍ‏)‏ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ؛ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، ‏[‏وَابْنِ الْجَارُودِ‏]‏ مِمَّا اشْتَهَرَ أَوْ صَحَّ ‏(‏لِعَمَلٍ‏)‏ بِمَضْمُونِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبَاتِ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ الَّتِي لَا يَجِدُ فِيهَا الْآخِذُ نَصًّا لِإِمَامِهِ، أَوْ يَجِدُهُ فَيُبْرِزُ دَلِيلَهُ الَّذِي لَعَلَّ بِوُجُودِهِ يَضْعُفُ مُخَالِفُهُ‏.‏

وَرُبَّمَا يَكُونُ إِمَامُهُ عَلَّقَ قَوْلَهُ فِيهِ عَلَى ثُبُوتِ الْخَبَرِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْمَلُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ ‏(‏أَوِ احْتِجَاجٍ‏)‏ بِهِ لِذِي مَذْهَبٍ ‏(‏حَيْثُ سَاغَ‏)‏- بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ- أَيْ جَازَ لِلْآخِذِ ذَلِكَ، وَكَانَ مُتَأَهِّلًا لَهُ، وَالْأَهْلِيَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بِحَسَبِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِالِاخْتِلَافِ فِي انْقِطَاعِ الْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ، فَضْلًا عَنِ الْمُطْلَقِ، لِنَقْصِ الْهِمَمِ ‏(‏قَدْ جَعَلْ‏)‏ أَيِ‏:‏ ابْنُ الصَّلَاحِ‏.‏

‏(‏عَرْضًا لَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ مُقَابَلَةً لِلْمَأْخُوذِ ‏(‏عَلَى أُصُولٍ‏)‏ مُتَعَدِّدَةٍ بِرِوَايَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، يَعْنِي فِيمَا تَكْثُرُ الرِّوَايَاتُ فِيهِ، كَالْفِرَبْرِيِّ وَالنَّسَفِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ وَغَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَوْ أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فِيمَا مَدَارُهُ عَلَى رِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَكْثَرِ الْكُتُبِ ‏(‏يَشْتَرِطْ‏)‏ أَيْ‏:‏ جَعَلَهُ شَرْطًا؛ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ جَبْرُ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي أَثْنَاءِ الْأَسَانِيدِ‏.‏

وَقَدْ تَكْثُرُ تِلْكَ الْأُصُولُ الْمُقَابَلُ بِهَا كَثْرَةً تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَعِبَارَتُهُ‏:‏ “ فَسَبِيلٌ “ أَيْ‏:‏ طَرِيقٌ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ، وَإِنْ حَمَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاسْتِظْهَارِ‏.‏

‏(‏وَقَالَ‏)‏ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا ‏(‏يَحْيَى النَّوَوِيُّ‏)‏ بِالِاكْتِفَاءِ بِالْمُقَابَلَةِ عَلَى ‏(‏أَصْلٍ‏)‏ مُعْتَمَدٍ ‏(‏فَقَطْ‏)‏؛ إِذِ الْأَصْلُ الصَّحِيحُ تَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ الَّتِي مَدَارُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا صِحَّةً وَاحْتِجَاجًا، عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ قَدْ تَبِعَهُمْ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَرْوِيِّ مَعَ تَقَارُبِهِمَا‏.‏

وَلَكِنْ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِمَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ لِلِاحْتِجَاجِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا حُمِلَ كَلَامُهُ هُنَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، كَانَ مُوَافِقًا لِمَا سَيَأْتِي لَهُ عِنْدَ الْحَسَنِ فِي نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ وَاخْتِلَافِهَا فِي الْحُكْمِ؛ أَهُوَ بِالْحُسْنِ فَقَطْ، أَوْ بِالصِّحَّةِ فَقَطْ، أَوْ بِهِمَا مَعًا، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُصَحِّحَ أَصْلَكَ بِجَمَاعَةِ أُصُولٍ حَيْثُ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ‏؟‏

وَإِنْ كَانَتْ “ يَنْبَغِي “ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّارِحُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْأَوَّلِ فِيهِ تَضْيِيقٌ يُفْضِي إِلَى التَّعْطِيلِ، وَعَدَمِ تَعَقُّبِ النَّوَوِيِّ الْقَوْلَ بِالتَّعَدُّدِ فِي التِّرْمِذِيِّ؛ لِافْتِرَاقِهِ عَمَّا تَقَدَّمَ بِاخْتِلَافِ نُسَخِهِ‏.‏

ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي النَّقْلِ لِلْعَمَلِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ‏؟‏ الظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ عَدَمُهُ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بُرْهَانَ فِي الْأَوْسَطِ؛ فَقَالَ‏:‏ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ عَلَى سَمَاعِهِ، بَلْ إِذَا صَحَّتْ عِنْدَهُ النُّسْخَةُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ مَثَلًا أَوْ مِنَ السُّنَنِ، جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ‏.‏

وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يُحَدِّثَ بِالْخَبَرِ أَيْ‏:‏ يَنْقُلُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ‏.‏

‏(‏قُلْتُ‏:‏ وَلِابْنِ خَيْرٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْمُقْرِئُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ الْأَمَوِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ اللَّمْتُونِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ الْمَالِكِيُّ خَالُ مُصَنِّفِ ‏(‏الرَّوْضُ الْأُنُفُ‏)‏ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيِّ، وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِتْقَانِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالضَّبْطِ؛ بِحَيْثُ تَغَالَى النَّاسُ فِي كُتُبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَزَادَتْ عِدَّةُ مَنْ كَتَبَ هُوَ عَنْهُ عَلَى مِائَةٍ، مَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ‏(‏575هـ‏)‏ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، مِمَّا وُجِدَ بِأَوَّلِ بَرْنَامَجِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِي أَسْمَاءِ شُيُوخِهِ وَمَرْوِيَّاتِهِ ‏(‏امْتِنَاعُ‏)‏ أَيْ‏:‏ تَحْرِيمُ ‏(‏نَقْلِ سِوَى‏)‏ أَيْ غَيْرِ ‏(‏مَرْوِيِّهِ‏)‏ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلرِّوَايَةِ الْمُجَرَّدَةِ أَوِ الْعَامِلِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ، وَالتَّحْرِيمُ فِيهِ عِنْدَهُ بَيْنَهُمْ ‏(‏إِجْمَاعٌ‏)‏‏.‏

وَنَصُّ كَلَامِهِ‏:‏ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَرْوِيًّا، وَلَوْ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِ الرِّوَايَاتِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ “ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ “، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ‏:‏ “ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ “ مُطْلَقًا بِدُونِ تَقْيِيدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجَزْمِ خَاصَّةً‏.‏

وَلِذَا عَبَّرَ النَّاظِمُ- كَمَا فِي خَطِّهِ- بِهِ مَكَانَ “ نَقْلِ “ الْمُشْعِرِ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ، وَلَوْ مُمَرَّضًا، لَكِنَّهُ جَزَمَ فِي خُطْبَةِ ‏(‏تَقْرِيبِ الْأَسَانِيدِ‏)‏ لَهُ بِذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنْ بِدُونِ عَزْوٍ؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ يَقْبُحُ بِالطَّالِبِ أَلَّا يَحْفَظَ بِإِسْنَادِهِ عِدَّةً مِنَ الْأَخْبَارِ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ كَذَا وَكَذَا‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏(‏وَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ الْحَرَجِ بِنَقْلِ مَا لَيْسَتْ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الدِّرَايَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتَمَدَ فِي حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ ابْنَ خَيْرٍ فَقَطْ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ‏)‏‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ نَقْلًا عَنِ الْمُحَدِّثِينَ‏:‏ إِنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى صِحَّةِ النُّسْخَةِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي‏:‏ أَنَا أَرْوِي، وَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَهْلُ الْفَنِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ‏.‏

وَلَكِنِ انْتَصَرَ لِلْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ حَتَّى قِيلَ- وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ-‏:‏ إِنَّ الثَّانِي لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَوْ صَحَّ لَخَدَشَ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، كَمَا يَخْدِشُ فِيهَا قَوْلُ ابْنِ بُرْهَانَ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى إِجْمَاعٍ مَخْصُوصٍ‏.‏

وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يُورِدِ ابْنُ خَيْرٍ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى تَحْرِيمِ نِسْبَةِ الْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ قَالَهُ، لَكَانَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ مَنْعَ إِيرَادِ مَا يَكُونُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا؛ حَيْثُ لَا رِوَايَةَ لَهُ بِهِ، وَجَوَازَ نَقْلِ مَا لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا، لَا سِيَّمَا وَأَوَّلُ كَلَامِهِ كَالصَّرِيحِ فِيمَا صَحَّتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ ذَكَرَ- كَمَا حَكَيْتُهُ فِي أَصْلِهِ- مِنْ فَوَائِدِ الْإِجَازَةِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْحَرَجِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ الْحَسَنُ

50- وَالْحَسَنُ الْمَعْرُوفُ مَخْرَجًا وَقَدْ *** اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ بِذَاكَ حَدْ

51- حَمْدٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ مَا سَلِمْ *** مِنَ الشُّذُوذِ مَعَ رَاوٍ مَا اتُّهِمْ

52- بِكَذِبٍ وَلَمْ يَكُنْ فَرْدًا وَرَدْ *** قُلْتُ وَقَدْ حَسَّنَ بَعْضَ مَا انْفَرَدْ

53- وَقِيلَ مَا ضَعْفٌ قَرِيبٌ مُحْتَمَلْ *** فِيهِ، وَمَا بِكُلِّ ذَا حَدٌّ حَصَلْ

54- وَقَالَ بَانَ لِي فِيهِ بِإِمْعَانِي النَّظَرْ *** أَنَّ لَهُ قِسْمَيْنِ كُلٌّ قَدْ ذَكَرْ

55- قَسْمًا وَزَادَ كَوْنَهُ مَا عُلِّلَا *** وَلَا بِنُكْرٍ أَوْ شُذُوذٍ شَمِلَا

56- وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ يَسْتَعْمِلُهْ *** وَالْعُلَمَاءُ الْجُلُّ مِنْهُمْ يَقْبَلُهْ

57- وَهْوَ بِأَقْسَامِ الصَّحِيحِ مُلْحَقُ *** حُجِّيَّةً وَإِنْ يَكُنْ لَا يُلْحَقُ

58- فَإِنْ يُقَلْ يُحْتَجُّ بِالضَّعِيفِ *** فَقُلْ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَوْصُوفِ

59- رُوَاتُهُ بِسُوءِ حِفْظٍ يُجْبَرُ *** بِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ يُذْكَرُ

60- وَإِنْ يَكُنْ لِكَذِبٍ أَوْ شَذَّا *** أَوْ قَوِيَ الضَّعْفُ فَلَمْ يُجْبَرْ ذَا

61- أَلَا تَرَى الْمُرْسَلَ حَيْثُ أُسْنِدَا *** أَوْ أَرْسَلُوا كَمَا يَجِيءُ اعْتَضَدَا

62- وَالْحَسَنُ الْمَشْهُورُ بِالْعَدَالَهْ *** وَالصِّدْقِ رَاوِيهِ إِذَا أَتَى لَهْ

63- طُرُقٌ أُخْرَى نَحْوُهَا مِنَ الطُّرُقْ *** صَحَّحْتَهُ كَمَتْنِ ‏"‏ لَوْلَا أَنْ أَشُقْ ‏"‏

64- إِذْ تَابَعُوا مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو *** عَلَيْهِ فَارْتَقَى الصَّحِيحَ يَجْرِي‏.‏